- انطلق من ذاتك
إن كنت ما تزال تهتم بفكرة الناس عنك، وتتخذ كافة الأسباب ليحسن رأيهم فيك فمن الصعب أن تصل إلى سمو انطلاق الروح..
في بعض الأحيان لا يمدحك الناس، أو يكون مديحهم لك أقل من مديحهم لغيرك. فبدلًا من أن تسر وتبتهج، لأن شيطان المجد الباطل نائم عنك ولو إلى حين، أراك تسعي إلى أتعاب نفسك فتجلس إلى الناس تتسوَّل مديحهم بطريقة لا تتفق مع كرامتك كابن لله، وهكذا تحدثهم عن نفسك..
فهل تسمح لي يا أخي الحبيب أن أناقش معك الأمر بنفس ما اعتدناه قبلا من صراحة:
1) لماذا تحدث الغير عن نفسك؟ أتريدهم أن يعجبوا بك؟ إليك إذن هذا السؤال الصريح:
هل أنت في أعماق ذاتك معجب بنفسك؟ لا شك أنك في حقيقتك متضايق من نقائص كثيرة محيطة بك، لماذا تريد أذن أن يمجدوا شخصية أنت نفسك غير مقتنع بتمجيدها؟!
2) لو اعتمدنا فرضا مبدأ الحديث عن النفس، فهل أنت تعطي صورة صادقة حقيقية عن نفسك؟ أم أنت تذكر للناس النواحي البيضاء فقط، وتترك النقط البشعة الحقيرة التي تنفرهم منك؟ ألا تعرف يا صديقي أن أنصاف الحقائق ليست كلها حقائق؟ ألست تري إذن أن في حديثك عن نفسك شيئًا من الخداع والكذب وتقديم وجه واحد من صورة لها عيوبها – تلك العيوب التي تعرفها أنت جيدًا والتي يعرفها معك أبوك الروحي؟
3) أنك تعرف بلا شك أن حديثك عن {فضائلك} يضيع عليك أجرك. ولست أشك أنك قرأت العظة علي الجبل وسمعت فيها {لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك} {فأبوك الذي يري في الخفاء هو يجازيك علانية}.. أنني مشفق عليك يا أخي الحبيب، تجاهد طويلا في سبيل فضيلة معينة، وفي لحظة طيش، من لحظات البر الذاتي اللعين، يأتي الشيطان ويسلب كل جهادك منك، فإذا تعبك كله قد ضاع باطلًا.
كلما أراك تتحدث عن نفسك، يُخَيَّل إليَّ أنك شخص زرعت زرعًا، فلما أنماه الله وأتي ثمره، بدلا من أن تحصده وتفرح به أشعلت فيه النار، أو تركت الشيطان يحصده نيابة عنك! يا صديقي العزيز، كلما أحسست رغبة في التحدث عن نفسك، دع ذلك القول الإلهي يرِن في أذنيك {الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم} (مت2:6).
4) هناك ضرر آخر من حديثك عن نفسك ربما توضحه لك الحادثة الآتية: كنت في أحدي المناسبات أتكلم في حماسة وإعجاب عن شخص مبارك أحبه وأقدره، فقاطعني أحد أساتذتي الروحيين قائلا: "أرجوك، لا تكمل هذا الكلام. أنك بهذا الحديث تجمع الشياطين حوله لتحاربه. أتركه يعمل في هدوء. أنه ما يزال مبتدئا وفي حاجة إلى صلوات كثيرة". فسكتّ وقد شعرت فعلا أنني أخطأت في حق هذا الإنسان. الشياطين لا تطيق أن تسمع عن أعمال طيبة لإنسان. أن أتخذك الله وسيلة لعمل مَجيد، فليكن ذلك سرا بينك وبين الله. لا تتحدث عن هذا العمل لئلا تتعرض لحسد الشياطين وقتالهم. ولا يضيع أجرك فحسب، وإنما قد تتعرض لحرب قاسية لا تعرف نتائجها.
5) أرأيت إذن بعضا من الضرر الذي يحيق بمن يتحدث عن نفسه؟ أتستطيع أن تدلني -في مقابل ذلك- عن فائدة واحدة تجنبها من مديحك لذاتك؟ لست أقصد تلك النزوة الحسية الخاطئة التي يشعر بها كل من يلمح نظرات الإعجاب موجهة إليه. فهذه في حد ذاتها خطيئة تحتاج إلى علاج!!
هناك فائدة حقيقية أعرضها عليك: أن ألح عليك الحديث عن نفسك إلحاحًا لم تستطع له مقاومة، فحدث الناس عن ضعفك وعجزك، حدثهم عن نفسك الساقطة التي لولا معونة الله لأشبهت أهل سدوم، واطلب إليهم بإلحاح أن يصلوا من أجلك حتى يفتقدك الله برحمته.
6) كلمة صريحة أخرى. ترددت طويلا قبل أن أهمس بها في أذنك، وهي أنه حتى الناس أنفسهم يشمئزون أحيانا ممن يتحدث كثيرًا عن نفسه. أنهم يسمونه أحيانا {المنتفخ} أو {المغرور}. وهكذا لا يكسب مثل هذا المادح لذاته سماءً ولا أرضًا.
7) أخيرًا فإن تلك الأعمال التي تحاربك بالبر الذاتي ليست كلها من صنعك: هناك الظروف المحيطة، والدور الذي قام به الآخرون، والإمكانيات التي منحت لك من فوق. إنها تكون مبالغة بلا شك أن تنسب كل هذا إلى نفسك فقط ناسيا عمل الله فيك.
أتراني ضايقتك بصراحتي يا أخي الحبيب؟ سامح ضعفي مصليًا من أجلي.
18- ذاتك أمام الله
ومرة أخرى يا أخي الحبيب أريد أن أحدثك عن ذاتك، ذاتك التي تحبها وتثق بها أكثر من الله أحيانًا. أن لم تنكر هذه الذات فهيهات أن تتمتع بجمال انطلاق الروح.
ذاتك أمام الله
إن كانت المحبة هي الوصية الأولي في المسيحية، فان إنكار الذات هو الطريق الأول إلى المحبة.
أنك لا تستطيع مطلقًا أن تحب الله والناس، طالما أنت تهتم بذاتك ولذاتك. لذلك عليك أن تنطلق أولًا من هذه الذات، فقد قال السيد له المجد: من أراد أن يتبعني فلينكر ذاته ويحمل صليبه ويتبعني (أم38:8).
وهكذا جعل إنكار الذات أول كل شيء.
ليكن هدفك إذن يا أخي الحبيب هو أخفاء ذاتك في الله بحيث لا يكون لك وجود مستقِل عنه، لتقل كما قال معلمنا بولس الرسول: {لكي أحيا لا أنا بل المسيح يحيا في} (غل20:2).
أن أردت أن يكون لك مجد، فليكن مجدك من الله، وعند الله كرر هذه الآية دائما: {مجدني أنت أيها الآب عن ذاتك} (يو5:17). لا تبحث عن مجدك في العالميات {فالعالم يبيد وشهوته معه} أما أنت فأبن الله، وأما أنت {فهيكل الله وروح الله حال فيك}، لست من دم ولا مشيئة جسد ولا مشيئة رجل بل من الله ولدت، وروحك نفخة من الله، نسمة من فيه.. وأنت في كل قداس تتناول جسد الله ودمه، والله يريدك أن تتحد به، تثبت فيه، فلماذا إذن تترك هذا المجد العظيم كله، وتبحث عن مجدك في التراب؟
لماذا يهمك رأي الناس فيك، فتسر بمديحهم. وتدافع عن نفسك أن هاجموك، وتتسوَّل رضاهم بحديثك عن نفسك؟ أما زلت يا أخي تحب التراب ومجد التراب؟ أما زالت نفسك تمثالا تقدم له الذبائح والقرابين – أنكر ذاتك، وركز محبتك كلها في الله وحده. قل كما قال يوحنا المعمدان {ينبغي أن ذاك يزيد وأني أنا أنقص، (يو30:3). أتتهامس في تذمر وتقول {لا أريد أن أنقص}. أعلم إذن أنك سوف لا تنقص إلا الشوائب التي تعكر نقاوة عنصرك، سوف لا تنقص ألا المجد العالمي، ذلك التراب الذي علق بك، والذي ينبغي أن تنقضه لترجع نظيفًا كما خلقك الله وكما يريدك دائما أن تكون.
هذا من جهة علاقتك بالناس، ولكني أريد أن أخاطبك أيضًا من جهة نظرتك إلى نفسك وموقفك أمام الله. إن أردت لروحك أن تنطلق فقف أمام الله كلا شيء، أنكر علمك وحكمتك، أنكر ذكاءك وخبرتك، وقف أمام الله كجاهل لا تعرف شيئًا. لست أقصد أن تدعي الجهل أو تتظاهر به، فالله لا ينخدع ولا يحب المدعين، إنما اعتقد يقينا -في تصريف كل أمر- أن ذاتك ينبغي أن تختفي ليظهر المسيح، ليس إمام الناس فحسب، وإنما أمام نفسك أيضًا. قل له يا رب أني أحكم حسب الظاهر، وقل له يا ربي أني ضعيف لا أستطيع مقاومة الشياطين، قل له أيضًا أن النتائج في يده وأطلب منه أن يتدخل فيرشدك، أو يسكن فيك ويعمل بك. وعندما يأتي الناس ليمدحوك علي فعلك، لا تفتخر ولا تتظاهر بالتواضع، إنما أتخذها فرصة أن تجلس معهم وترنم ذلك المزمور الخالد {لولا أن الرب كان معنا، فليقل إسرائيل لولا أن الرب كان معنا، حين قام الناس علينا، لابتلعونا ونحن أحياء.. إذن لغرقنا في الماء وجازت نفوسنا السيل} {مز123}.
وعندما تعرض لك خطية، لا تثق بقوة روحك، ولا بماضيك في الانتصار {فقد طرحت كثيرين جرحي وكل قتلاها أقوياء} (أم26:7). إنما اعتقد أن النصرة من عند الله، وإن تخلي عنك في أبسط الخطايا فسوف تشبه أهل سدوم. أنما رتل ذلك المزمور الجميل. {وأنت عرفت سبيلي. في الطريق التي أسلك اخفوا لي. نظرت إلى اليمين وأبصرت وليس من يعرفني. ضاع المهرب مني وليس من يسأل عن نفسي. فصرخت إليك يا رب وقلت أنت هو ملجأي ورجائي في أرض الأحياء.. نجني من مضطهدي لأنهم قد اعتزوا أكثر مني} (مز141).
يا أخي الحبيب. أنك لست شيئًا، فاعترف بهذا أمام الله وأمام نفسك،؟ وكلما فكرت أنك تستطيع عمل شيء، ارجع إلى ذاتك مرة أخرى، وقل: من أنا يا رب حتى أقف إمام فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر! (خر11:3) فإن أقنعك الله بأنه سيكون لك فما، وأنه سيتكلم علي لسانك، وأنك سوف لا تكون إلا أداة، حينئذ استمر في حياتك. إن سرت في وادي ظل الموت فسوف لا تخاف شرا، وان قام عليك جيش ففي ذلك ستكون مطمئنا. حينئذ اذكرني أنا التراب النجس، لكي نتقابل معًا. هناك...
19- انطلق من رغباتك الأرضية
هل تعرف من أي شيء يجب أن تهرب؟ اهرب من الأغراض، من الآمال، من الرغبات اهرب من كل أولئك، أن كنت تود حقا أن تصل إلى انطلاق الروح.
اسمح لي يا أخي الحبيب أن أدخل قليلًا إلى قلبك، وأتحدث إليك في صراحة. أن لك آمالا عرضة تشغلك كثيرًا، وتحتل جانبا من قلبك بل هي تحتل خيالك أيضًا فتجلس في وحدتك وتحلم بها أحلام اليقظة، تأوي إلى فراشك فترى هذه الآمال في نومك. لك أهداف أنت أدري الناس بها، ولست مستطيعًا أن تنكرها. أنك تود أن تكون شيئًا هاما، تود أن يعرفك الناس، ويبجلوك. لك آمال في الشهرة والصيت، ولك آمال في السيطرة والنفوذ، ولك رغبات في المال، وفي المركز الاجتماعي، وفي العلم، وفي الألقاب، وفي المستقبل، وفي المظاهر والسمعة. ولك رغبات في المسكن والمأكل والملبس. ولذات الجسد المنوعة. إنك لا تعيش في العالم بل العالم هو الذي يعيش فيك، ويستولي علي قلبك وفكرك وخيالك ومشيئتك أيضًا. أما روحك التي تعيش حبيسة في هذا كله فأنها تود الانطلاق من رغبات جسدك، الجسد الذي {يشتهي ضد الروح}.
انك يا أخي الحبيب تشقي بهذه الآمال والأغراض، فهي لا تتحقق جميعها، ولذلك فأنت غير راض. انك تشتاق وتشقي في اشتياقك ولذلك فأنت تعد العدة، وتلتمس الوسائل: تفكر، وتقابل وتكتب، وتسير وتذهب، وتسعي وتتعب في سعيك ثم أنت تجلس وتنتظر، وقد يضيق صدرك، وتمل الصبر والترجي، ويدركك اليأس أو القلق أو خوف الفشل، فتشفي بانتظارك. وقد ينتهي السعي والتعب إلى لا شيء وتحرم من رغبتك التي تودها فتشقي بالحرمان. وأخطر من هذا كله، فإن آمالك وأغراضك قد تجنح بك عن طريق الصواب فتتعلم بسببها الخداع، أو اللف والدوران، أو التزلف والتملق، أو الكذب، أو ما هو أبشع من هذا.. كما قال أحد الحكماء {لابد أن ينحدر المرء يومًا للنفاق، أن كان في نفسه شيء يود أن يخفيه}..
أنك متعب، وأنا أعرف هذا وأشفق عليك في تعبك. فإلي متى تعيش في جحيم الآمال! والعجيب في رغباتك الترابية هذه أنها تشقيك أيضًا حتى إذا تحققت. فرغبتك عندما تتحقق تتلذذ بها وتقودك اللذة إلى طلب المزيد. وهكذا كما قال السيد المسيح: {من يشرب من هذا الماء يعطش} (يو13:4). وعندما يعطش سيسعى إلى الماء مرة أخرى ليشرب، وكلما يشرب يزداد عطشًا، وكلما يزداد عطشًا، يزداد اشتياقًا إلى هذا الماء.
لذلك يا أخي الحبيب أود أن أناقش معك الأمر في هدوء لماذا تتمسك برغبات معينة في العالم، والعالم يبيد وشهوته معه. أنك غريب مثلي علي الأرض، وستأتي ساعة تترك فيها هذا العالم وتترك فيه كل ما أخذته منه. عريانا خرجت من بطن أمك وعريانا تعود إلى هناك. ستترك رغمًا عنك كل ما في العالم من عظمة ومال وشهوة وتتوسد حفرة كأحقر الناس، ومهما بلغت في العالم من سطوة أو متعة أو شهرة، فإن هذا سوف لا يمنع جسدك الفاني من التعفن، سوف لا يمنع الدود من أن يرعى في جثتك حتى يأتي عليها. وستقف بعد هذا كله أمام الله مجردًا من مظاهر العالم المنوعة، لم تأخذ من الدنيا غير أعمالك، خيرًا كانت أم شرًا. فحرام عليك يا أخي الحبيب أن تركز أغراضك وآمالك في هذه الأرض، الأرض التي تنبت لك شوكًا وحسكًا، والأرض التي قبلت دماء هابيل البار، والأرض التي يحفرون فيها أبارًا مشققة لا تضبط ماء. (أر13:2).
إن الآباء القديسين الذين عاشوا قبلنا علي الأرض. ولم تكن الأرض مستحقة أن يدوسوها بأقدامهم، هؤلاء جميعًا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من قداسة. إلا بعد أن فرغوا قلوبهم من حب العالم والأشياء التي في العالم، فلم تعد لهم علي الأرض رغبة أو شهوة، ولم يحتفظوا فيها بقنية أو مُلك. لم يتمسكوا بشيء في العالم لذلك سهل عليهم أن يتركوه، بل اشتاقوا إلى ذلك اشتياقًا.
أما أنت يا أخي الحبيب فلك رغبات أرضية، {وحيثما يكون كنزك يكون قلبك أيضًا}. لذلك تعلق قلبك بالتراب ومجد التراب، فقلت قيمة الروحيات في نظرك. أنها التجربة التي حاول بها الشيطان أغراء رب المجد {أخذه إلى جبل عال جدًا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي}. وأن ملكت هذه جميعها ماذا تستفيد أن خسرت روحك، روحك الحبيسة في قفص مذهب من الرغبات، وتود أن تنطلق.
20- انطلق من سلطان الحواس
أنك تؤمن بحواسك الخمس إيمانا شديدًا ولا تصدق روحك أن تعارضت مع هذه الحواس فمتى تنجو من سلطان حواسك وتدرك انطلاق الروح.
أنك تصدق الشيء الذي تراه بعينيك. أو تسمعه بأذنيك، أو تلمسه بيديك.. أما غير هذا فقد يعتريك فيه الشك فلماذا!! السبب بسيط، وهو أنك ما تزال عائشًا بالجسد، تؤمن بالجسد وحواسه.
أنك تنظر هنا وهناك، فتري أنه ليس من أحد، ليس من مشاهد ولا من رقيب. فترتكب الخطأ الذي تتحاشى ارتكابه أمام الناظرين، فهل تصدق حقًا أنه لم يرك أحد؟! لقد كان هناك عينان تنظران إليك في إشفاق. وفي تأنيب.. ولكنك لم تبصر هاتين العينين لأنك كنت تعيش في الجسد.. كان الله يراقبك وأنت لا تراه ولو كنت تعيش بالروح منطلقًا من هذه الحواس القاصرة لاستطعت أن تقول ما قاله إيليا: {حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه} (1مل15:18).
تحيط بك المخاطر فتلتفت عن يمين وعن يسار. وإذ تري نفسك وحيدًا تخاف وترتعب. أن الله واقف عن يمينك لكي لا تتزعزع، ولكنك لا تراه. عيناك قاصرتان لا تبصران كل شيء. أنها عينان ماديتان لا تدركان الروحيات. ليتك يا أخي الحبيب تطلق روحك من سلطان هذه الحاسة الجسدية، روحك التي تفحص كل شيء حتى أعماق الله (1كو10:2).، ليت روحك تنطلق لتري الله عن يمينك وتهمس في أذنه فرحا {أن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا لأنك أنت معي} {مز23}. كان جيحزي المسكين خائفًا جدًا وهو يري بعينيه الأعداء يقتربون وليس من منقذ. أما أليشع العائش بالروح فكان مطمئنًا. كان يري بالروح ما لا تراه العين، ويسمع ما لا تسمعه الأذن. وإذ أشفق علي الغلام طلب من الله أن يفتح عينيه ليري... ونظر جيحزي فإذا الجبل زاخِر بجنود الله ومركباته فاطمأن (2مل17:6).
لا تعتمد علي حواسك فهي ضعيفة لا تدرك ما تدركه الروح. كانت أرملة صرفة صيدا إلى الكوار فتري فيه حفنة واحدة من الدقيق. إلى الكوز فتري فيه قليلًا من الزيت، وتري أن هذا الدقيق وهذا الزيت لا يكفيان إلا لصنع كعكة واحدة تأكلها مع أبنها ثم يموتان من الجوع. أما إيليا، رجل الله. فكان يري بالروح غير ما تراه العيون الجسدية: كان يري كوز الزيت لا ينقص مهما أخذت منه الأرملة وكذلك كوار الدقيق... وقد كان. (1مل14:17).
كان أليشع واقفا علي شاطئ الأردن. عينه الجسدية تري الأردن نهرا، وتري السير فيه يؤدي حتما إلى الغرق. أما روح أليشع فكانت منطلقة من هذه العين القاصرة. كان نهر الأردن والشاطئ بالنسبة إليه سواء. كلاهما أرض صالحة للسير أخذ أليشع رداء إيليا الذي سقط عنه عندما استقل المركبة النارية وضرب الماء بهذا الرداء فانفلق الماء وعبر أليشع (2مل14:2). أن العين العادية تري ثوب إيليا ثوبا، أما أليشع فكان يراه بالروح قوي عجيبة يستخدمها الله.. ولم يكن في نظره ثوبًا كباقي الثياب. إن عينك قاصرة يا صديقي حتى في الماديات. هناك أجسام لا تراها، ومع ذلك فهي موجودة تتحدي بصرك الضعيف، وربما تستطيع أن تري هذه الأجسام الصغيرة باستعمال المجهر.
فإذا لك يكن هناك مجهر، ولم تر عينك المجردة تلك الأشياء الدقيقة، أتستطيع أن تنكر وجودها لأنك لا تراها! فأن كان هذا في الماديات. فماذا تقول عن الروحانيات.
في الأمور الروحية اترك فرصة للروح لكي تقودك، ولا ترغمها علي الخضوع للجسد، أتركها علي سجيتها تنطلق وتسبح في عالم الإلهيات "وطوبي لمن آمن دون أن يري" (يو29:20).
لابد أنك سمعت عن الرؤى يا أخي الحبيب، حينما تسبح الروح في عالم الملائكة والقديسين وتري ما لا يراه الجسدانيون، هنا تري الروح منطلقة من سلطان الجسد، تستخدم أعضاءه في أغراضها الروحية، فتخضع الحواس للروح، وليس الروح للحواس. (
قال لي شخص أنه سمع بظهور ما رجرجس في أحد الكنائس فرفض أن يصدق، وذهب بنفسه إلى هناك ليتأكد بعينيه من فساد تلك {الخرافات} وفعلا ذهب ولم ير شيئًا.
لست أريد أن أعلق علي هذه القصة بشيء، ولكني أعرض رأيًا وهو أن هذا الشخص وأمثاله قد لا يرون الرؤى لضعف أيمانهم بها، لأنهم يريدون إخضاع الروحيات لحواس الجسد، بينما يكشف الله للبسطاء عن أسرار ملكوته.
21- لست أريد شيئًا من العالم
هذا هو أول شيء يجب أن يقوله الإنسان الذي يحب أن يصل إلى انطلاق الروح:
لست أريد شيئا من العالم، فليس في العالم شيء أشتهيه، أنها تجارب تحارب المبتدئين.
لست أريد شيئًا من العالم، لأن العالم أفقر من أن يعطيني لو كان الذي أريده في العالم، لانقلبت هذه الأرض سماءً، ولكنها ما تزال أرضًا كما أري، ليس في العالم إلا المادة والماديات، وأنا أبحث عن السماويات، عن الروح، عن الله.
لست أريد شيئًا من العالم، فأنا لست من العالم، لست ترابًا كما يظنون، بل أنا نفخة إلهية , كنت عند الله منذ البدء، ثم وضعني الله في التراب، وسأترك هذا التراب بعد حين وأرجع إلى الله. لست أريد من هذا التراب شيئًا، من عند الآب خرجت وأتيت إلى العالم، وأيضًا أترك العالم وأرجع إلى الآب.
لست أريد شيئًا من العالم، لأن كل ما أريده هو التخلص من العالم. أريد أن أنطلق منه، من الجسد، من التراب! وارجع -كما كنت- إلى الله، نفخة {قدسية} لم تتدنس من العالم بشيء.
لست أريد شيئًا من العالم، لأني أبحث عن الباقيات الخالدات، وليس في العالم شيء يبقي إلى الأبد، كل ما فيه إلى فناء، والعالم نفسه سيفني ويبيد. وأنا لست أبحث عن فناء.
لست أريد شيئًا من العالم، لأن هناك من أطلب منه. هناك الغني القوي الذي وجدت فيه كفايتي ولم يعوزني شيء. أنه يعطيني قبل أن أطلب منه، يعطيني النافع الصالح لي. ومنذ وضعت نفسي في يده لم أعد أطلب من العالم شيئًا.
لست أريد شيئًا من العالم، لأن العالم لا يعطيني لفائدتي وإنما يعطي ليستعبد. والذين أخذوا من العالم صاروا عبيدا له، يعطيهم لذة الجسد، ويأخذ منهم طهارة الروح. يعطيهم متعة الدنيا، ويأخذ منهم بركة الملكوت. ويعطيهم ممالك الأرض كلها ليخروا ويسجدوا له. ويعطيهم كل ما عنده لكي يخسروا نفوسهم. أما أنا فقد خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح (في 8:3). وهذا العالم الذي يأخذ أكثر وأفضل مما يعطي، هذا العالم الذي يستعبد مريديه، لست أريد منه شيئًا..
لست أريد شيئا من العالم لأنني أرقي من العالم. أنني أبن الله. صورته ومثاله. أنني هيكل للروح القدس ومنزل لله أنني الكائن الوحيد الذي يتناول جسد الله ودمه. أنني أرقي من العالم، وأجدر بالعالم أن يطلب مني فأعطيه، أنا الذي أعطيت مفاتيح السماوات والأرض. وأنا الذي شاء الله في محبته وتواضعه أن يجعلني نورًا للعالم وملحا للأرض {مت5}.
لست أريد من العالم لأنني أريد أن أحيا كآبائي، الذي لم تكن الأرض مستحقة أن يدوسوها بأقدامهم. هكذا عاشوا، لم يأخذوا من العالم شيئا بل علي العكس كانوا بركة للعالم. من أجل صلواتهم أنزل الله الماء علي الأرض، ومن أجلهم أبقي الله علي العالم حياة حتى اليوم..
لست أريد شيئًا من العالم لأن الخطية قد دخلت إلى العالم فأفسدته. في البدء نظر الله إلى كل شيء فرأى أنه حسن جدًا إذ لم تكن الخطية دخلت بعد، حتى التنين العظيم في البحر باركه الرب ليثمر ويكثر، أما الآن وقد تشوهت الصورة البديعة التي رسمها الله في الكون فقد مجت نفسي العالم، ولم أعد اشتهي فيه شيئًا، هذا العالم الذي أحب الظلمة أكثر من النور.
لست أريد شيئًا من العالم، لأني أريدك أنت وحدك، أنت الذي أحببتني حتى المنتهي، وبذلك ذاتك عني. أنت الذي كونتني إذ لم أكن، ولم تكن محتاجًا إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك.. أريد أن أنطلق من العالم وأتحد بك، أنت الذي أعطيتني علم معرفتك..
22- التعلم من الله
من الناس من هم جهلة لم يتعلموا على الإطلاق، ومنهم مَنْ قد علمهم الناس وهؤلاء أشد جهالة، أما المتعلمون الحقيقيون فهم الذين تعلموا من الله مباشرة..
لقد خلق الله الإنسان علي جانب وافر من المعرفة. وعندما كان الإنسان يحتاج إلى مزيد من العلم، كان الله يعلمه بنفسه، ولو استمر الإنسان هكذا لصار عالِمًا، ولاستطاع أن يأكل من شجرة الحياة ويحيا إلى الأبد، لكن الإنسان قبل لنفسه أن يتلقى العلم علي غير الله فبدأت جهالته، وهكذا أخذ أول درس له عن الحية وأكل من {شجرة المعرفة} فصار جاهلًا.. وما زال الإنسان يسعى إلى المعرفة بعيدًا عن الله، فيزداد جهالة علي جهالته.
أن الإنسان هيكل الله، وروح الله ساكن فيه، هذا الروح الذي قال عنه السيد المسيح: {يرشدكم إلى جميع الحق} (يو13:16). والذي قال عنه القديس بولس الرسول أنه: {يفحص كل شيء حتى أعماق الله} (1كو10:2). ولكن الإنسان من فرط شقاوته وجهله، كلما يبحث عن المعرفة، لا يطلب أخذها من داخله، من روح الله الساكن فيه، وإنما يفتش عنها في الخارج عند الناس، وفي الكتب التي يظن أن له فيها حياة...!
وهكذا كثر العلماء وحكماء هذا الدهر، وكانت حكمة هذا العالم جهالة عند الله، ولقد سار أوغسطينوس العظيم في هذا الطريق فترة طويلة، يبحث عن الله خارجًا عن نفسه فلا يجده، ثم وجده أخيرًا فناجاه بتلك الأنشودة الخالدة:
{قد تأخرت كثيرًا في حبك أيها الجمال الفائق في القدم والدائم جديدًا إلى الأبد}.
{كنت فيَّ فكيف ذهبت أبحث عنك خارجًا عني...}
{أنت كنت معي، ولكني لشقاوتي لم أكن معك...}
ولما بحث أوغسطينوس عن الله في داخله، وجده وصار قديسا...
وهكذا أنت يا أخي الحبيب ستظل كثيرا في بحثك عن الله إن بحثت عنه في الخارج. اجلس إلى نفسك وفكر وتأمل، وادخل إلى أعماق أعماقك، واطلب الله، فستجده هناك، وستراه وجها لوجه، وتحسه كنبع دافق فياض من المحبة، فتعيش في فترة من الدهش العجيب وتصرخ في فرحة صامتة.
{لقد رأيت الله}.
هذه هي الطريقة التي لجأ إليها آباؤنا القديسون، خرجوا من زحمة الحياة، ومن اضطراب العالم وصخبه، وتركوا كل شيء وبحثوا عن الله في داخل نفوسهم، وهكذا بالهذيذ والتأمل استطاعوا أن يروا الله، وفي نفس الوقت كان المفكرون والفلاسفة والباحثون والعلماء يفتشون عن الله في الكتب وعند الناس، فلا يصلون إلا إلى جهالة وغموض وتعب.. أقول هذا وأنا متألم، لأنني أري أيضًا كثيرًا من الآباء الذين ذهبوا إلى القفر، قد أخذوا هم أيضًا يفتشون عن الله في الكتب أو في المشروعات أو في الخدمة، بينما الله في قلوبهم من الداخل، يريدهم أن يفرغوا من هذه المشغوليات كلها ويجلسوا إليه فيحدثهم عن أسرار لا يعرفها أحد، ويريهم ما لم تره عين.
ليس هذا بالنسبة إلى الرهبان فحسب، وإنما إلى الجميع.. أتدري يا أخي الحبيب ما هي الطريقة الصالحة للتربية الروحية؟ أنها ليست في إعطاء الإنسان شيئًا جديدًا، فهو يملك كل شيء والروح الحال فيه يعرف أكثر مما تريد أنت أن تعلمه.. إنما الوسيلة الصالحة للتربية الروحية هي في تخليص الإنسان مما يملك من معلومات خاطئة، من معرفة أخذها من العالم أو من الناس.
أن الطفل يولد وفي قلبه وفي فكره وفي خياله فكرة واسعة جميلة عن الله، ثم يتولاه المجتمع المسكين بالتعليم، فيقدم له أفكارا عن الله غير أفكاره، ويقدم له صورًا عن الله وعن القديسين تحد من خيال الطفل الواسع.. وهكذا تتبدل فكرة الطفل عن الله وعن القداسة بمصطلحات عرفية عن الخير والشر، التي أكل منها آدم وحواء. ويصير مثلهما جاهلا، ويأتي دور المرشدين الروحيين الحقيقيين، لا لكي يزيدوا علي الطفل علما، وإنما لينزعوا منه المعرفة الباطلة التي أخذها من العرف والتقاليد وتفسيرات الناس للدين. وعندما تنطلق روحه من هذا كله يعرف الله علي حقيقته، لأن الله ليس غريبا عنه، بل هو ساكن فيه..
23- انطلق من حب التعليم
حب التعليم خطر كبير.. ابتعد عنه يا أخي الحبيب حيثما وجد وأهرب منه علي قدر ما تستطيع..
أنك تريد أن تعلم الناس. ولكن أي شيء تريد أن تعلمهم؟
ألست معي يا أخي العزيز في أننا لم ننضج بعد، ولم نتعلم بعد؟ هناك أشياء نفهمها من وجهة نظر واحدة فنسئ فهمها. وعندما ندفع بأنفسنا لتعليم الناس، لا نعلمهم الدين كما هو وإنما كما نفهمه نحن، وفي سن معينة، ودرجة روحية وعقلية معينة. وقد نكبر في السن والروح والعقل، ونفهم الدين فهما آخر غير فهمنا له اليوم، فماذا يكون من أمر الناس الذين علمناهم قبلًا؟!
لذلك ولغيره يقول القديس يعقوب الرسول في رسالته {لا تكونوا معلمين كثيرين يا أخوتي. عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم، لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعًا} (يع3: 1، 2).
وهكذا نسمع أرميا يقول لله "لا أعرف أن أتكلم، لأني ولد" (أر6:1). ويقول إشعياء النبي عن نفسه أنه {إنسان نجس الشفتين} (أش5:6). ونجد القديس باخوميوس يأتون إليه يطلبون كلمة تليق، فلا يتحدث، ولكن يدفع إليهم بتلميذه تادرس فيتحدث روح الله علي لسان هذا التلميذ القديس..
وأحد الآباء وهو شيخ، يأتي إليه أخ ليأخذ تعليما فيقول له {أمكث في قلايتك وهي تعلمك كل شيء} فيرجع الأخ منتفعًا... قصص كثيرة، أقرأها يا أخي بنفسك، وأنظر أي درس يعطيك الله عن طريقها. ولي ملاحظة قبل أن اترك هذه النقطة وهي أن تعاليم كثيرة للآباء القديسين وصلت إلينا عن أحد طريقين: إما أن الأب الشيخ كان في إثناء حديثه مع الأخوة، يتناول راهب ورقة ويدون ما يقوله الشيخ، وإما أن الأب كان يسجل تأملات له لمنفعته، فيجدونها في قلايته بعد نياحته وينتفعون بها.
هناك يا أخي الحبيب فرق شاسع جدًا بين التعليم وحب التعليم: التعليم دعا إليه الكتاب المقدس، وعهد به إلى أشخاص معينين، أما حب التعليم ففيه خطر كبير، في أحيان كثيرة يكون إحساس متنكرا.. مع حب التعليم يأتي في كثير من الأحيان إحساس خفي أو ظاهر بالجدارة الشخصية، وبالامتياز عن الآخرين، وكلما يتسع عند الشخص نطاق التعليم كلما يكبر عنده هذا الإحساس، حتى ليدخل إلى الكنيسة أحيانًا لا لينتفع، بل لينقد ويقيم من نفسه معلما للمعلمين. أنه لا يأخذ ابدأ، وإنما يعطي باستمرار، ومثل هذا الشخص الذي لا يأخذ يأتي عليه وقت يجف فيه، ولا يعد لديه شيء ليعطيه..
أما الآباء فكانوا علي عكس هذا تمامًا. كانوا يتعلمون باستمرار ويأخذون نفعًا من كل شيء. كان القديس أنطونيوس العظيم يأخذ تعليمًا من امرأة {لا تستحي أن تخلع ثيابها لتستحم، أمام راهب}. والقديس مكاريوس أب برية شهيت كلها يأخذ تعليمًا من صبي صغير. وأرسانيوس الذي درس حكمة اليونان والرومان يتعلم من مصري أمي}. هؤلاء الآباء كانت أرواحهم تطوف كالنحلة النشيطة فتجني من كل زهرة شهدًا!
هناك خطورة أخرى في حب التعليم، ذكرني بها إنسان غيور شغله التعليم عن نفسه: كان يقرأ الكتاب المقدس لا لينتفع، وإنما لِيُحَضِّر درسًا. ويحسن إلى الفقراء لا لأنه يحبهم وإنما ليكون قدوة للناس. ويحترس في تصرفاته لا لأنه يؤمن بما يفعله، وإنما لكي لا يعثر الآخرين. ويجلس إلى الناس لا ليقتبس من أرواحهم شيئًا وإنما ليمتحن حديثهم {كأستاذ} ثم يلقي بحكمة شارحًا الأوضاع السليمة. بل قال مرة أنه كان يقف للصلاة فإذا ما افتقده روح الله، وشعر في الصلاة بشيء، أو سبحت تأملاته في شيء! يقطع صلاته ويجلس ليسجل هذه الاختبارات ليعلم بها الناس لقد انقلبت وسائط النعمة عند هذا الإنسان، وأصبح التعليم عنده هو كل شيء.
همسة أخرى أريد أن أهمِسها في أذنك الحبيبة إلى قلبي وهي {أي شيء ستعلمه للناس؟ أهو الدين؟ هل تظن الدين مجرد معلومات يملأ بها الإنسان عقله؟ أخشي ما أخشاه يا صديقي المجاهد أن طريقة بعض الناس ستحول الدين إلى علم يدرسونه ويمتحنون فيه كسائر العلوم، وما الدين إلا روح وحياة كما تعرف.
قال لي {ولكني معلم في الكنيسة فماذا أعمل؟}. قلت له {حية هي روحك يا أخي الحبيب. أنك لا تعلم تلك النفوس وإنما تحبها. وهذه الأرواح التي تراها منطلقة حواليك، لم تطلقها التعاليم وإنما المحبة، المحبة التي {لا تسقط أبدًا} لأنها الله..
24- انطلق من الشعور بالامتلاك
كثيرون يدعون أنهم أغنياء يملكون من قِنية العالم أشياء كثيرة أما أنت يا أخي الحبيب فقد تخلصت من الشعور بالامتلاك منذ أيقنت أن الملكية تقيد روحك.
لقد جئت إلى العالم بلا شك فقيرًا مثلي لا تملك فيه شيئًا عريانًا خرجت من بطن أمك. لا تملك الأقمطة التي قمطوك بها، ولا الفراش التي أضجعوك عليها. وكل ما {امتلكته} في العالم بعد ذلك لم يكن في الواقع إلا عطية من الله. لم يكن ملكك وإنما أمانة وضعها الله في يدك لفترة محدودة هي فترة العمر، وعندما تنقضي حياتك علي الأرض ستخرج منها فقيرا كما أتيت، وعريانًا كما ولدت. أما قنية العالم التي أدعيت ملكيتها عندما كنت علي الأرض والتي تركتها رغما عنك، فسيدعي ملكيتها غيرك. وينتقل من الأرض ليدعي ملكيتها ثالث، وهكذا دواليك...
انك لا تملك شيئا إذن، حتى ذاتك. لم يكن لك ذات من قبل إذ لم يكن لك كيان أو وجود، كنت عدما. ثم خلق الله ذاتك. وعندما سقطت وأصبحت هذه الذات ملكا للموت والهلاك، عاد الله واشتراها بدمه وافتداها لنفسه. أنت إذن من كل ناحية لا تملك شيئًا حتى ذاتك، لذلك فالذي يخطئ إلى ذاته يخطئ إلى الله نفسه، لأنه يفسد ملكا لله، ويفسد جسدا سر الله بعد أن امتلكه أن يجعله هيكلا لروحه القدوس. وبالمثل من يخطئ إلى الآخرين، فإنه مخطئ ضد الله نفسه عن طريق مباشر وغير مباشر. لقد أخطأ داود ضد أوريا الحثي وزوجته ومع ذلك قال لله {لك وحدك أخطأت} وليس السبب في ذلك مخالفته لله فحسب، وإنما خطيئته أيضًا ضد كائنين هما ملك لله.
أن شعرت بهذا يا أخي الحبيب أدركت خطورة الخطية ووضعها الدقيق، أنك لا تملك ذاتك حتى تتصرف فيها تصرف الملاك في أملاكهم.
أما من جهة المقتنيات فقد شرحنا كيف أنها جميعًا ليست ملكك وإنما هي عطية من الله. أنت مجرد إنسان استؤمِن عليها ليدبرها بأمانة كما يليق بوكيل صالح. وهذا التدبير سيسألك الله عنه عندما يقول أعطني حساب وكالتك (لو2:16). من أجل هذا نجد ملكا غنيا جدًا كداود} يري الأمور علي حقيقتها فيقول: {أما أنا فمسكين وفقير} {مز69} لم يكن فقيرًا حسب العرف البشري الخاطئ، ولكنه حقا لا يملك شيئا بحسب النظرة الروحية السليمة. ومن أجل هذا أيضًا كنا نجد الآباء القديسين ينذِرون الفقر الاختياري، وينظرون إليه كأحد الأعمدة التي تقوم عليها حياتهم الرهبانية.
وبهذا يمكنك أن تفهم الصدقة بمعناها الصحيح، أنك لا تعطي من مالك شيئًا، وإنما أنت تعطي لخليقة الله من مال الله. الأمر إذن لا يدعو إلى البر الذاتي أو إلى الفخر، ولا يدعو أيضًا أن تفكر في الابتعاد عن مدح الناس لك، بأن تمدح نفسك بالتصدق تحت إمضاء {فاعل خير} أعجبني متبرع قرأت إمضاءه فإذا هو: {فاعل شر يرجو الصلاة من أجله}.
إن الكائن الوحيد الذي يتصدق من ماله علي الناس هو الله. ولست أحب أن أسمي الصدقة فضيلة، حيث أنها ليست فضلًا أو تفضلًا من المتصدق. وهو لا يعدو أن يكون، كما قلنا موصلًا لنعمة الله إلى الآخرين، وما يقال عن الصدقة يقال عن باقي الأعمال الحسنة التي لا يمكن أن تعتبر فضلًا من أحد.
يلحق بالصدقة عنصر آخر وهو الشكر عليها، كيف تقبل يا أخي أن يشكرك الناس علي شيء لم تدفعه من عندك، أن كان المال مال الله، فكيف تشكر أنت عليه، وكيف ترضى بقبول هذا الشكر؟! أعط مجدًا لله، وتوار ليظهر هو، فهو الذي عمل العمل كله.
أن الشعور بالامتلاك قيد يقيد روحك، ويشعرك بما ليس فيك حقيقة، فالهرب منه ليس إنكار لِذاتك، وإنما اعترافًا بحقيقتك وليكن الله معك.
25- انطلق من سلطان ذاتك
أنطلق يا أخي من استعباد ذاتك لك لأنك أن وصلت إلى اتفاق مع نفسك، وتحررت من الداخل، فلن تستطيع كل الظروف المحيطة أن تؤثر عليك، إذ تكون قد وصلت إلى انطلاق الروح.
هل تحسب يا أخي الحبيب أن العالم له سلطان عليك؟ وهل تظن أن العثرات والمغريات هي السبب في سقوطك؟ كلا. تخطئ كثيرًا أن ظننت شيئًا من هذا. فقد يكون للعالم أو مغرياته بعض التدخل، ولكن السبب الأساسي الحقيقي لسقوطك هو ذاتك من الداخل.
لو لم تكن قابلا للخطية، مرحبا بها، أو محبا لها، لو لم تكن هكذا ما سقطت.
لقد كان يوسف الصديق يعيش في جو مشبع بالخطية، وقد أحاطت الخطية بيوسف في عنف ولكنه لم يسقط، لأن كل الإغراءات لم تستطيع أن تدخل إلى قلبه النقي. فانتصر علي الخارج كله، لأنه كان منتصرًا في الداخل. لا تقل أني سقطت لأن العالم ملئ بالمغريات، ولكن الأصح أن تقول: أنك سقطت لأن في قلبك حنينا إلى تلك المغريات وقبولًا لها.
اثنان يمران في الطريق علي حانة، فلا يستطيع أحدهما أن يقاوم منظر زجاجات الخمر المعروضة، فيدخل ويشرب ويسكر وأما الآخر فيمر علي الحانة دون أن شعر بوجودها أو بوجود الخمر فيها. لا يراها معثرة، ولا تترك في نفسه أثرًا، ولا تعزيه لسبب واحد: وهو أن قلبه خال من الحنين إلى الخمر، خالٍ من محبتها. قلبه من الداخل لا تقوي عليه المؤثرات الخارجية.
انتصارك إذن في حياتك الروحية يتوقف علي عامل حيوي، وهو نتيجة المعركة الداخلية بينك وبين نفسك. أن استطعت أن تصلب ذاتك في داخلك، ستخرج إلى العالم الخارجي بتلك العين البسيطة التي تري الخير في كل شيء، والجمال في كل شيء، وكما يقول الرسول: {كل شيء طاهر للطاهرين} (تيطس15:1).
بعض الناس يتحاشون الأوساط الخارجية المُعِثرة، وهذا حسن وواجب، لأن الله منعنا عن مجالس المستهزئين وطريق الخطاة. ولكن الخطأ هو أن هؤلاء البعض يكتفون بتحاشي الأوساط الخارجية تاركين الحيوان الرابض في أحشائهم كما هو في شهوته للعالم والأشياء التي في العالم. أمثال هؤلاء قد يصادفهم النجاح بعض الوقت، ولكن ما أسرع ما يسقطون عندما تضغط عليهم التجربة وتفحم الإغراءات ذاتها في حياتهم.. هؤلاء يحبون الخطية وأن كانوا لا يفعلونها، والشخص الذي يحب الخطية قد يسقط فيها -ولو بعد حين- مهما تحاشاها أمثال هؤلاء يبتعدون عن الشر، ولكنهم يعتقدون في نفس الوقت أن عملهم هذا تضحية منهم في سبيل الله. أنهم -كالخطاة تمامًا- ما زالوا يعتقدون أن الشر لذيذ، والخطية حلوة مشتهاة، وما زالوا ينظرون إلى الشجرة فيجدونها جيدة للأكل، وبهجة للعيون وشهية للنظر، ولكنهم يفترقون في أمر واحد وهو أنهم لا يمدون أيديهم ليقطفوا. أنهم لم ينتصروا في الداخل، ولم يسكن الله في قلوبهم لذلك فهناك في العالم ما يغريهم وما يعثرهم، ففيه الخطية المحبوبة التي يشتاقون إليها، ولكنهم يهربون منها خوفًا من السقوط فيها.
أستطيع أن أقول أن هؤلاء -من ناحية الفعل- يطيعون وصايا الله، وأن كانوا لا يحبونها ولا يحبونه.
مثل هذا النوع إذا استمر في جهاده قد يخلص كما بنار وقد لا يستطيع أن يستمر في الجهاد فيسقط ويكون عظيمًا، لأن بيته ليس مؤسسا علي الصخر. أما الوضع الصحيح الذي يكون فيه الروح منطلقا، فهو عدم الاستعباد للخطية وعدم محبتها،حيث يكون الإنسان حرا من تأثير الشر عليه. {فالمغريات} في نظر غيره، ليست هكذا بالنسبة إليه لأنها لا تغريه، بل علي العكس هو لا يتفق معها بطبيعته المقدسة، لذلك فهو لا يتجاوب معها، بل ينفر منها دون جهاد ودون تعب، إذ قد ترك هذا الجهاد السلبي، أصبح جهاده سعيا في سبيل التعمق في الروح وفي معرفة الله.
ولكن الإنسان -كما قلنا- لا يمكن أن يصل إلى هذه الحالة ما لم يتنقَّ من الداخل، وينتصر في حربه مع نفسه التي تشتهي ضد الروح، علي الإنسان أن يصل مع نفسه إلى اقتناع أكيد بمرارة الخطية وبشاعتها، وبحلاوة الله ومتعة الحياة معه.
وفي هذه الحرب الداخلية {يقمع الإنسان جسده ويستعبده} (1كو27:9). بل ويصلب في ذاته وشهواته. لا يقيدها ويتركها تصرخ فتحنن قلبه بصراخها ورعودها. وإنما ينظر إليها بمنظار الله فيجدها حقيرة لا تستحق شيئًا فينفر منها.. وهكذا يقول مع الرسول {مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح الذي يحيا في} (غل20:2) ألست تري أن هذا بعضا مما يقوله السيد المسيح {من أراد أن يخلص نفسه يهلكها ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها} (مر35:8).
ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يتم بدون معونة خاصة من الله لذلك فالجهاد مع النفس لابد أن يصحبه جهاد مع الله. جاهد يا أخي معه في ضراعة مرددا قول إسرائيل البار {لا أتركك حتى تباركني} (تك26:32).
قل له أيضًا: {تنضح علي بزوفاك فأطهر، وتغسلني فأبيض أكثر من الثلج} {مز50} وثق أنك إذا خرجت من هذه الحرب منتصرا فمن المحال أن تقوي عليك كل قوي الشر ولو اجتمعت.
ولكنك تري يا أخي الحبيب أن كل هذا يحتاج إلى الخلوة ومن هنا كانت الخلوة عنصرًا أساسيًا في حياة أولاد الله. استطاعوا بها أن يجلسوا إلى نفوسهم، وأن يجلسوا إلى خالِقهم، وأن يخرجوا من هذا وذاك بأسلحة متجددة تعينهم في حياتهم الروحية، وتدفعهم باستمرار إلى العمق. انظر إلى حياتك جيدًا وتأملها في صراحة فربما كان أسباب سقوطها افتقادها إلى الخلوة.
أن الشخص الذي لم يختبر هذه الخلوة، هو شخص لا يعرف نفسه علي حقيقتها. وهو شخص في أغلب الأحوال يجرفه التيار فلا يعلم إلى أين يذهب. أنه غالبا يفكر بعقلية الجماعة ويسير علي هداها، فينحدر ويظل في انحداره حتى يخلو إلى نفسه فيحس أنه ساقط.
أما أنت فلا تكن هذا الشخص. حدد لنفسك أوقاتًا مقدسة تراجع فيها سيرتك، وتتذكر فيها المبادئ السامية التي اقتنعت بها منذ زمان، ولتسترجع أمامك حياة المنتصرين من أولاد الله، وتغذي نفسك بكلام الله وأقوال الآباء وسيرهم، وتسكب نفسك أمامه في حرارة وعمق. تأخذ منه خبزك اليومي الذي لا غني لنفسك عنه.
الله معك يقويك، ويهبك القداسة التي من عنده، ويغفر لنا خطايانا.