انطلاق الروح الجزء الثالث #التراث_المسيحي_المسموع


 انطلاق الروح الجزء الثالث

 6 أعظم من السماء والأرض

 لم أكن في هذه المرة سائرًا في الصحراء ولا جالسًا علي عتبة الدير وإنما مع أبي الراهب أمام مغارته في الجبل، نتابع حديثنا الماضي عمن هو:

 

أعظم من السماء والأرض

الروح التي تود أن تنطلق يا أخي الحبيب هي الروح التي تدرك تمامًا قدر ذاتها، والتي تعرف أنها عظيمة بهذا المقدار كله، وأنها أكبر وأكبر جدًا من أن يذلها الجسد أو تذلها البيئة أو يذلها الشياطين.

 

ولكي أعطيك فكرة عن هذا الأمر، يليق بنا جدًا يا حبيب الله أن نبحث الأمر معا، ونتذكر الماضي والحاضر والمستقبل أيضًا، حتى ندرك أية قوة مخبأة فينا ونحن لا ندري.

نتذكر أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي خُلِقَ علي صورة الله ومثاله (تك 1: 27)، فإن طلب أليك أن تعرف ذاتك، فقل في قوة وثقة "أنا صورة الله".

 

وأنت -كصورة الله- قد كتب لك الخلود. فمن المحال أن تفني. وهل يعقل أن يفني شخص علي مثال الله الخالد؟! إذن فأنت أعظم من الجبل الشامخ ومن البرج الضخم،

 أعظم من الشمس الملتهبة ومن القمر المضيء. أعظم من الصحراء الواسعة ومن السهل الفسيح. أعظم من الذرة المحطمة ومن كل قوات الطبيعة علي الإطلاق. فكل هذه الأشياء تزول،

لأن السماء والأرض تزولان كما يقول الكتاب (مت 24: 35). وأما أنت فلك الحياة الأبدية كما وعدك السيد المسيح (يو14:4) أنت يا صورة الله.

 

7- أنت ملك الأرض وما عليها

 

أنت يا أخي العظيم المخلوق الإلهي الوحيد، أنت -من دون الأرض وما تحتها وما عليها- المخلوق الذي أعطاه الله -كما أعطي الملائكة- موهبة العقل وموهبة النطق، والذي أُعْطِيَ أن يعرف الله ويتعبد له. أنت الذي جعل اله مسرته فيك، وهذه الطبيعة كلها التي تظنها أحيانًا أعظم منك، ما خلقها الله إلا لتكون في خدمتك، فتسخرها جميعا حسب إرادتك ووفق سلطانك.....

 

وهكذا خلق الله أولا كل شيء، ثم أوجدك أخيرًا، لتكون ملكا علي كل ما خلقه من قبل، تكون ملكًا علي طيور السماء وسمك البحر وحيوانات البرية وعلي كل الأرض (تك1: 26 و28) أنت يا من تستضعف ذاتك وتخاف من الصقر والحوت والأسد وأشباهها، من عبيدك الضعفاء الذين كانوا في خدمتك في يوم ما..

لا تظن أنك كنت هكذا قبل الخطيئة فقط، أنما كان الأبرار في كل العصور لهم هذه الهيبة وهذا السلطان أيضًا: أن شمشون قاضي إسرائيل ضرب الشبل بيده فوقع صريعا، دانيال كان في جب الأسود ولم تضره الأسود في شيء، يونان ابتلعه الحوت وأخرجه دون أن يقوى علي إيذائه، والثلاثة الفتية دخلوا في أتون النار بردا وسلاما.. ومثل هذا يقال في العهد الجديد.

 

أيضًا علي القديس مرقص وأسده، وعلي القديس بولس الذي نشبت أفعى كبيرة في يده فنفضها إلى النار ولم يتضرر بشيء رديء. حتى تعجب الناس وقالوا {هو إله} (أع82: 3- 7) أنه أنت الذي أعطيت سلطانا أن تدوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو(1).

 

آه يا أخي الحبيب لو عرفت قدر روحك، هذه التي تحبسها بخطيتك في سجن من الذلة والجبن والخوف، وهي -من وراء قضبان سجنك- تتطلع إلى مجدها السالف وتود انطلاقًا، لو سمحت أنت لها.

 

8- أنت المخلوق الإلهي

 أنت {يا جبار البأس} مخلوق إلهي، أنت الذي قال له الله الابن أثبت في وأنا فيك كما يثبت الغصن في الكرمة (يو4:15). وأنت الذي يقرع الله علي بابك ويود أن تفتح له فيدخل ويتعشى معك وأنت معه وعندك يصنع منزلا (يو23:14).

 

أنت الذي طلب منه أن يسعى ليصير مثل الله، كما يظهر قول السيد له المجد {كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل }. أنت الشخص الذي وجد الله لذة في أن يدعوه ابنه..

 

أنت الذي صب الرب ماء وغسل رجليك ومسحهما بالمنشفة التي كان مُتزرًا بها.

 

أنت الذي قال الرسول عن أعضاء جسدك أنها أعضاء المسيح (1كو15:6)..!!

 

أنت الوحيد الذي قيل عند أنك هيكل الله وروح الله يسكن فيك (1كو16:3).

 

أنت الذي تشتهي الملائكة أن تكون مثلك، يا من أنت وحدك تتناول جسد الرب ودمه الطاهرين، يا من قال الرب أنه يريدك أن تكون واحد فيه وفي الآب (يو21:17).

  

9- أنت الذي تخدمه الملائكة

 ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم (مز7:34). ألم تر يا أخي المحبوب كيف أرسل الرب ملاكين لإنقاذ لوط من سدوم، وكيف أرسل ملاكه فسد أفواه الأسود أمام دانيال، وكيف قال أليشع لتلميذه: {لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين علينا… وفتح الرب عيني الغلام فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلًا ومركبات نار (2مل6: 15 –17)" وكيف أحضر ملاك الرب طعامًا لإيليا وهو نائم تحت الرتمة فقام إيليا وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين يومًا (1مل19: 5- 9) وكيف حمل ملاك الرب حبقوق ليقدم طعامًا لدانيال في الجب (دا 14: 35- 38)..

 

ويعوزني الوقت أن أحدثك يا حبيب الرب عن الخدمات التي قدمها الملائكة لك ولأخوتك، وعن اهتمامهم بك، وشفاعتهم فيك أنك مخلوق مهم.

 

10- أنت الذي دُعيت إلهاً

 أنت يا أخي المحبوب الشخص الذي دعي إلهًا من الله والناس..

 

{ألم أقل أنكم آلهة،

 

وبني العلي تدعون} (مز7:82).

 

وقال الله من قبل لموسى:

 

{أنا جعلتك إلهًا لفرعون} (خر1:7).

 

ليس المقصود طبعا الألوهة كالله، وإنما السيادة.

 

وأيًّا كان معني هاتين العبارتين فإنهما تدلان بلا شك علي المكانة الكبرى التي لك عند الله يا أخي الحبيب.

  

11- أنت تحِل وتربط في السماء

 إن كان مما يرفع قدرك جدًا أن يذهب السيد المسيح بنفسه ليعد لك مكانًا عند الآب في السماء، ثم يأتي ويأخذك إليه قائلا لك: {تعالى يا مبارك أبي رث الملك المعد لك منذ إنشاء العالم} أفليس بالأكثر تعلو نفسك في مقدراها علوا عندما يضع الله في يديك مفاتيح السموات، ويقول لك: ما حللته علي الأرض يكون محلولًا في السماء وما ربطته علي الأرض يكون مربوطًا في السماء، بل أكثر من هذا يعطيك سلطان الغفران واللاغفران(1)، يعطي كل هذا لك أنت أيها الإنسان، يا صورة الله ومثاله، بل يا من ظهر الله في شكله وأخذ جسدا مثله؟، ناسوته لم يفارق لاهوته لحظة واحدة ولا طرفة عين.

(1) هذه العبارة تخص الكهنة طبعا، والكاهن إنسان وهذه المقالة تتحدث عن الإنسان من حيث كونه إنسانًا، بجميع أفراده، وجميع الأجيال التي مرّ بها.

  

12- أنت صديق الله

 

تذكر أن الله -تسامت حكمته- قبل أن يحرق سدوم وعمورة يقول: "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله. وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض" (تك18: 17و18)؟! وهكذا يعلن الله مشيئته لصديقه إبراهيم، ويناقشه إبراهيم في الأمر مناقشة فيها عتاب وفيها دالة وفيها جرأة.. حاشا لك. أديان الأرض كلها لا يصنع عدلا (تك 18: 24- 26). وهذه دالة. ليست مجرد كلام عبد لسيده، أو مخلوق لخالقه، وإنما هي عبارة صديق يعرف مكانته عند صديقه.

 

وهوذا موسى يفعل الأمر نفسه في حديثه مع الله أيضًا عندما أراد الله إفناء شعبه " الآن أن غفرت خطيتهم، وإلا فامنحي من كتابك الذي كتبت (خر32: 33) " دالة وصداقة من غير شك!!

 

هل عرفت يا أخي قيمة روحك، ومقدار عظمتها أمام الله أو تقبل بعد ذلك علي كرامتك أن يبعث بك شيطان حقير، قد أعطاك الله سلطانًا علي جميع الشياطين؟! لا أظن ذلك.

 

 13- كان مستغرقًا في نومه

  

… كان مستغرقا في نومه حين همس الكلام في أذنه {إلى متى تعيش هكذا؟ ظلًا لإنسان آخر يتحكم فيك كما يشاء؟! {وكان الصوت مترفقا نصوحا فلم يفزع ذلك النائم إنما رد في هدوء {ماذا تعني يا سيدي الملاك؟} فأجابه الملاك {أقصد أنك في أفكارك وفي حياتك الروحية قد فقدت شخصيتك، وأصبحت تعيش بشخصية غيرك. هناك رجل آخر كبر في عيني نفسه، ثم ظل يكبر في عينك أنت، حتى جعلته مثلك الأعلى تتبعه في كل شيء: ترتفع معه إن ارتفع، وتسقط معه حينما سقط،، آراؤه آراؤك، وانحرفاته هي انحرافاتك، بل انك تدافع عن أفكاره أكثر مما يدافع هو عنها. وأنت تؤمن بمبادئ هذا {السيد} دون نقاش، يكفيك أن معبودك هذا قد نطق بها في وقت ما}.

 

وأحس ذلك النائم أن كل ما قال الملاك صحيح، ولكنه أراد توضيحًا لمواقفه فقال: {وهل من ضير يا سيدي الملاك في أن أتبعه مادامت كل أفكاره سليمة ليس فيها شيء من الخطأ؟ أليس من الجائز أن يخطئ كإنسان؟ وإن أخطأ فكيف تعرف ذلك، ما دمت لا تسمع إلا أفكاره ولا تود أن تقبل غيرها؟ وما دام كل شخص يعارض أفكار هذا {السيد} هو في نظرك شخص لا يصح أن تستمع إليه، وإن استمعت فبروح الجدل، محاولا أن ترد علي كل فكرة وأن تنقضها دون أن تتفهمها لا لشيء إلا لأنها تعارض آراء سيدك!!}.

 

 

وفرك النائم عينيه في خجل ليتحقق ما إذا كان صاحيًا أم نائمًا، بينما استمر الملاك في حديثه:{إن روحك حبيسة تود أن تنطلق ولا تستطيع، لأنها مقيدة بقيود هذا الإنسان.. أنه يعطيك من المعلومات ما يريدك هو أن تعلمه: يعلن لك ما يشاء من الحقائق، ويحبس عنك ما يشاء. وحتى المعلومات التي عندك من ذاتك، والتي تكتسبها عن غير طريقه، خاضعة هي أيضًا لمراجعته. أنك قد فقدت شخصيتك تمامًا. وأصبحت لا تتصرف من تلقاء نفسك. كلما حاقت بك مشكلة تستصرخ به لينقذك. وكلما عرض لك أمر من الأمور لا تحاول أن تبت فيه بحل حتى يجيء {سيدك} ويحله. وان تصرفت في الأمر يستطيع أن يلغي تصرفك متى يشاء وكيف يشاء دون أن تعترض. إن أقصى ما يمكن أن تصل إليه في حياتك هو أن تصبح صورة باهتة من هذا الإنسان. شخصيتك التي خلقك الله بها قد ضاعت. وشخصيته هو لن تستطيع أن تصل إليها تماما، لأن الظروف الروحية والعقلية والاجتماعية التي كونتها هي غير ظروفك. وهكذا أراك تتأرجح في وضع غير مستقر بين الحالتين}.

 

واستمع ذلك النائم إلى هذه العبارات وهو يشعر أنها تمس صميم نفسه، بل أنه فيما بينه وبين نفسه يحس أنه قد أصبح ضيق الصدر بسلطان ذلك {السيد}.

 

وهكذا وجد الشجاعة في أن يطلب إلى الملاك أن يوجد له حلا فقال {ولكن أستطيع يا سيدي الملاك أن أناقش معلمي}؟ فأجاب الملاك: {أقول لك -والقياس مع الفارق- أن الله يحب أن يكون أولاده أقوياء الشخصية حتى أنه كان يسمح لهم أن يناقشوه}. انظر إلى أرميا وهو يقول {أبر أنت يا رب من أن أخاصمك ولكني أكلمك من جهة أحكامك ، لماذا تنجح طريق الأشرار، اطمأن كل الغادرين غدرًا} (أر1:12). واستمع إلى إبراهيم وهو يناقش الله تمجد أسمه ويقول له {حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر.. أديان الأرض كلها لا يصنع عدلا؟ (تك25:18). وانتقل معي أيضًا إلى موسى وهو يكلم خالقه فوق الجبل بنفس الأسلوب فيقول له: {أرجع عن حمو غضبك وأندم عن الشر} (إر 12:32).

 

فقال النائم للملاك {والآن ماذا تريد يا سيدي الملاك أن أفعل؟} فأجابه الملاك: {أريد ألا تلقي قيادتك إلى إنسان معين، وإنما استمع إلى الكثيرين، واقرأ للكثيرين، واستعرض ما تشاء من الآراء. وليكن لك روح الإفراز، فتميز الرأي السليم من الرأي الخاطئ، وتعتنق من كل ذلك ما يناسب حالتك أنت بالذات من جهة تكوينك الروحي والعقلي، وما يناسب ظروفك الاجتماعية والعملية، ويتناسب أيضًا مع سنك، عالما أن هناك طرقا كثيرة تؤدي إلى الله، وقد يكون الطريق الذي صلح لغيرك غير الطريق الذي يصلح لك أنت بالذات، الطريق الذي أختاره لك الله -وليس الناس- دون غيره من الطرق.

 

... ثم استيقظ النائم من نومه، ليري نفسه إنسانًا جديدًا قد انطلقت روحه، حرة من كل قيد، تبحث عن الحق أينما وجد ولا تؤمن بعبادة الأشخاص...

  

14- اعرف ذاتك

 هل تود أن تكون كاملا يا أخي الحبيب؟ وهل تريد أن تنطلق روحك انطلاقًا إلى حيث لا قيود ولا حدود؟ إذن فعليك قبل كل شيء، أن تفرغ ذاتك من كل شيء: من كل ما أرسبه فوقك العالم من رغبات وعلوم وأحاسيس..

 

عليك أولا أن تنكر ذاتك، وأن تقف أمام الله كلا شيء. اعرف نفسك بالحقيقية، من أنت؟ أليس مجرد حفنة تراب، من تراب الأرض..؟ بل أنت أقل من تراب. أنت عدم، لا شيء مر وقت لم تكن فيه موجودًا، ومع ذلك كان العالم عالما، من غيرك. ثم كونك الله إذ لم تكن: خلق التراب أولًا، ثم خلقك من تراب. علام إذن ترتفع، ومن أنت حتى ترتفع؟ اخفض رأسك في خجل وذلة. فأنت عدم. وقف أمام الله من انكسار نفسي وانسحاق روح ذاكرًا أصلك القديم.

 

هل عرفت أنك عدم؟ بل أصارحك أيضًا أنك أقل من عدم. فالعدم هو لا شيء خير من الخطية التي جلبها الإنسان إذ أن (تصور قلب الإنسان شرير كل يوم} {تك5:6).

 

فإن وجدت فيك شيئًا صالحًا، تيقن تماما أنه ليس منك، بل هو من الله الكلي الصلاح، والكامل القدوس وحده، لأنه ليس أحد صالحًا إلا الله وحده (مت17:19) إن وجدت فيك شيئًا صالحًا فلا تنتفخ ولا تتفاخر، ولا تحارب نفسك بالبر الذاتي، وإنما أرجع المجد لله، لأنه هو المستحق وليس أنت، فالله هو الذي صنع الخير، لأنه صانع الخيرات، بل لأنه الخير ذاته، وهو الصلاح ذاته، وأنت بدونه فناء لا تستطيع أن تعمل شيئا. فلا تسرق مجد الله وتنسبه لنفسك. قد تضئ كالقمر، ويزداد ضياؤك حتى تظهر بدرا، ولكن في كل ذلك تذكر أن القمر هو كوكب مُظْلِم يستمد نوره من الشمس، وليس فيه ضياء من ذاته، وأن احتجبت عنه الشمس لا يظهر منه شيء لأنه مظلم بطبيعته. أترى يستطيع القمر أن يتحدث عن نوره} أمام الشمس؟ هكذا أنت أيها الحبيب أمام الله.

 

أما أن وجدت فيك شرًا فاعرف أنه منك، من الخطية الرابطة التي اشتقت إليها. وكنت تسود عليها فسادت عليك {تك 4} لأنه ليس شر من قبل الله. الله الذي لا يتفق الشر مع طبيعته والذي بعد أن عمل كل شيء بيديه الطاهرتين اللتين بلا عيب ولا دنس، {نظر إلى كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا}.

 

هل عرفت ذاتك يا أخي الحبيب؟ وهل أدركت أن إنكار الذات هو القاعدة الأساسية لعلاقتك مع الله؟ لست أقصد أن تعتبر ذاتك شيئا تتواضع فتنكره، لأن ذاتك لا شيء، عدم وفناء. ولست أحب ان استعمل كلمة {تواضع}، لأن المتواضع هو الكائن الذي يتنازل من مكانه إلى درجة أقل ارتفاعًا وأدني سموًا. أما إنسان حقير مثلي ومثلك، كان ترابا وعدما، مستحيل عليه أن يتواضع، إذ ليست له درجة حتى يرفضها، أو كرامة حتى يتخلى عنها. وليس هو مرتفعًا حتى ينزل، أو ساميا حتى يتضع. وإنما كل ما أقصده من إنكار الذات يا أخي المحبوب هو أن تعرف ذاتك، فتدرك أنه لا قيمة لك علي الإطلاق. وإنما هو الله الذي يتحنن عليك فيهبك إن أحببته، شيئا من مجده، الذي لا تستحقه، لولا رحمته ولولا تواضعه هو وتنازله.

 

دعنا نتدارك إذن فنتأمل تلك الآية الجميلة التي تقول {أختار الله جُهَّال العالم ليخزي الحكماء. واحتار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء. واختار الله أدنياء العالم والمزدري وغير الموجود ليبطل الموجود لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه} (1كو1: 27- 29).

 

فما معني هذا؟ ألا يصلح لملكوت الله إلا الجهال والضعفاء والمحتقرون؟! كلا فقد اختار الله قوما مثقفين من أمثله موسى وبولس وأرسانيوس، كما اختار القديسين الفلاسفة أثيناغوروس وبنتينوس وأوغسطينوس. واختار الله رجالا أقوياء مثل شمشون والقوي الأنبا موسى، واختار رجالا محترمين مثل داود الملك والأميرين مكسيموس ودوماديوس...

 

فكيف التوفيق بين الأمرين؟

 

ليس المقصود إذن أن الله لا يختار إلا الجهال والضعفاء والمحتقرين، بل لعل المقصود هو الله -تبارك اسمه- يختار الأشخاص الذين مهما بلغوا من علم أو قوة أو كرامة، يقفون أمامه كجهال وضعفاء محتقرين.

 

فهوذا موسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين، لم يرسله الله عندما كان واثقا بنفسه، ومعتمدا علي قوته البشرية. ولكنه دعاه عندما وصل إلى الدرجة التي قال فيها {مَنْ أنا حتى أذهب إلى فرعون وحتى أخرج بني إسرائيل من مصر.. لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك. بل أنا ثقيل الفم واللسان} (خر3: 11، 4: 10).

 

وهذا هو بولس الذي درس الناموس وتعلم تحت قدمي غمالائيل، لم يرسله الله إلا عندما وصل إلى الحالة التي يستطيع أن يقول فيها: {لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء. أين الحكيم؟ أين الكاتب. أين مباحث هذا الدهر. ألم يجهل الله حكمة هذا العالم.. وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة} (1كو1: 19،2، 3، 4).

 

وأرسانيوس لم يجعله الله أبا ومرشدًا، عندما كان معلما للأميرين أركاديوس وهونوريوس في قصر أبيهما الأمبراطور ثيئودسيوس. بل عندما تنقت روحه أصبح في إمكانه أن يقول عن نفسه: {أن أرسانيوس معلم  أولاد الملوك} الذي درس حكمة اليونان والرومان، لا يعرف الألفا فيتا التي يعرفها هذا المصري الأمي}.

 

هل تظن يا أخي العابد أنك ستبني ركنا في الكنيسة بعلمك وثقافتك؟! يا لك من مسكين. الحق أقول لك أن لم تنطلق من اعتمادك علي معرفتك فلن تصل إلى الله. ولن يبارك الله لك في خدمة لأنك إن نجحت فسوف ينسب الناس نجاحك إلى ما وهبه لك العالم من شهادات وإجازات علمية، وهكذا يسلب من الله مجده ويعطي للعالم. الله -يا أخي المتعلم- قادر في القرن العشرين أن يذهب إلى البحيرة من جديد، ويختار صيادًا جاهلًا لكي يقيمه رسولا وكاروزًا. فيعلم الناس خيرا منك. أن الله عندما شق البحر الأحمر لم يختر لذلك قضيبا من ذهب، وإنما عصا بسيطة كانت توجد ملايين من مثيلاتها في العالم.

 

 

فحاذر أن تظن في نفسك أنك شيء، أو أن تغتر بثقافة العالم. وحاذر -حتى في حياتك الروحية الخاصة- أن تعتمد علي معرفتك العالمية أو الدينية أو قراءاتك الروحية أو خبراتك القديمة. وإنما كلما ازددت علما، وكلما تعمقت في الروح، قف كل يوم أمام الله وأنت شاعر بجهلك وعجزك وأنت محتاج إليه ليرشدك، كمبتدئ، مهما كنت قديم الأيام. قف أمامه وأنت شاعر بحاجتك الماسة إليه ليحميك من أضعف الشياطين، ومن أبسط الخطايا في نظرك ومن أتفه الزلات أمام عينيك.

 

ليكن لك هذا الشعور. لأني رأيت كثيرين بعد أن قرأوا وكتبوا عن عمق الروحيات يسقطون خطايا المبتدئين.. وأقول لك هذا أيضًا خوفا من أن ثقتك بعلمك الروحي وخبرتك الروحية. تجعلك تعتمد علي ذراعك البشري، {وملعون من يتكل علي ذراع بشر}.

 

واعلم يا أخي الحبيب أن كل علم روحي أو عالمي لا يقودك إلى حياة الانسحاق وإلي الشعور بالجهل، هو علم باطل وخداع للنفس، بل هو ضربة من الشيطان يصرفك بها عن أن تسأل وتطلب وتقرع الباب.. فاشعر يا أخي بجهلك إذ يقول الكتاب: {أن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلا لكي يصير حكيما} (1كو18:3).

 

وكما أنه أمام الله يتساوى الحكيم والجاهل في أنهما كليهما جاهلان وأن موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة تهب علي الاثنين، كذلك أمام الله يتساوى الضعيف والقوي لأنهما كليهما ضعيفان، إذ ليست هناك قوة لأحد في حضرة الله.

 

هل تعتقد يا صديقي أنك قوي؟ إذن فمن أين أتتك القوة؟ إنها ليست من ذاتك طبعًا لأنك تراب ورماد، بل عدم وفناء. وهي ليست من كائن آخر غير الله. لأنه – تبارك اسمه هو وحده القوي، ومنه تستمد كل قوة.

 

 فهل قوتك أذن من الله؟ إن كان الأمر كذلك فلماذا تفتخر؟ ولماذا تتصلف؟ ولماذا تستخدم قوة الله في غير أعمال الله؟ أذن فأن افتخر أحد فليفتخر بالرب، لأنه -تعالي في مجده- مصدر كل شيء يدعو إلى الفخار، وان كنت أيها الإنسان الضعيف بطبيعتك قويا بالله، فقل أذن كما قال الطوباوي بولس {فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علي قوة المسيح. لذلك أسر في الضعفات.. لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي} (2كو9:12،10).

 

الشخص الذي يعتقد في نفسه أنه قوي لا يستخدمه الله. لأن الله يختار ضعفاء العالم ليخزي بهم الأقوياء، فحاذر من أن تثق بقوة مزعومة لك. لأن الخطية {طرحت كثيرين جرحي، وكل قتلاها أقوياء}. وإنما قل مع داود البار {ارحمني يا رب فإني ضعيف، اشفني يا رب فإن عظامي قد اضطربت، ونفسي قد انزعجت جدًا}. تأكد يا أخي من ضعفك، ليس لأني قلت هذا وإنما لأنها الحقيقة الواضحة. الم تسقط اليوم وتخطئ؟ ألم تخطئ أمس وقبلا من أمس؟ لست قويا أذن، بل ضعيفا ومثالا للضعف. وستظل كذلك حتى تعترف بضعفك. وتسرع وتثبت في الآب والآب فيك.

 

نصيحة أخرى أهمس بها في أذنك: لا تجلس في خلوتك وتظن أنك أقوي من الناس، وتستعرض المشروعات العظيمة التي يمكنك القيام بها لو أعطيت لك سلطة، أو لو كنت في مكان الآخرين. أنك لست قويا يا أخي بهذا المقدار، وما هذه إلا أحلام اليقظة، أو لعله الغرور. أما أنت فضعيف، وربما لو كنت في مكان أولئك الخطاة الذين تنتقدهم لأخطأت أكثر منهم، ولأظهرت ضعفا أكثر من ضعفهم. إن كنت قد انتصرت في الماضي أو تنتصر الآن، فسبب ذلك هو وجود الله معك، وليس السبب أنك قوي. احتفظ إذن ببقاء الله معك عالما أنه لن يرضي بالبقاء طالما أنت تعبد ذاتك بدلا منه.

 

واحد من أثنين يعمل في الميدان: أما الله وأما أنت.أن كنت تعتقد أن الله هو الذي يعمل، وأنك لا شيء إلى جواره، بل أنك متفرج تنظر إلى أعمال الله في إعجاب، أن كنت تعتقد هذا فحسنا تفعل. أما أن كنت أنت الذي تعمل. وأن لك القوة ما يكفل لك ذلك، فثق أن كل ما تعمله باطل هو، وستفشل فيه.

 

لست أقول هذا عن خدماتك وأعمالك الخارجية، وإنما عن صميم حياتك الروحية أيضًا، إن اعتقدت أنك أنت الذي تجاهد لترث الحياة الأبدية، فسوف تفشل في جهادك. وإن اعتقدت أن خطية ما لم يعد لها سلطان عليك، فقد تسقط فيها ولو بعد حين، ويكون سقوطك عظيمًا...

 

ولكن الحل الصحيح هو أن تشعر بضعفك، في أرض تنبت شوكا وحسكًا، أن تشعر بضعفك، أمام كل تجربة وكل خطية قائلًا مع المرنم: {لولا أن الرب كان معنا ليقل إسرائيل، لولا أن الرب كان معنا حين قام الناس علينا لابتلعونا ونحن أحياء، عند سخط غضبهم علينا} {مز123} وهكذا تصرخ إلى الله، ثم تنظر كيف يحارب عنك وينتصر فتمجد الله وليس نفسك، لأن النصرة كانت من عنده.

 

وأخيرًا، اشعر أن هناك أشياء كثيرة لنتحدث عنها معا في هذا الموضوع، فاذكرني يا أخي الحبيب في صلاتك حتى نلتقي مرة أخرى ونكمل تأملنا، أن أحبت نعمة الرب وعشنا....

 

 15- ذاتك ومديح الناس

 

كلمتك في المرات السابقة عن إنكار الذات، وما يزال هناك كثير أقواله لك في هذا الموضوع حتى نصل سويًّا إلى انطلاق الروح..

 

أتريد يا أخي أن تصل إلى الله؟ أتحب أن تردد عبارة الطوباوي بولس {لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح فذاك أفضل جدًا} إذن فانطلق أولا من ذاتك، من ذاتك التي تعبدها بدلًا من الله وتحاول باستمرار أن تراها ممجده معظمه أمام الآخرين.

 

هل يمجدك العالم يا أخي الحبيب، وهل تقبل منه هذا التمجيد؟ يا لك من مسكين.. ألست تعلم أن المجد لله وحده؟ لأنه خالق الكل ومصدر جميع الكائنات ولأنه الوحيد الواجب الوجود، والأزلي، والقادر علي كل شيء، والمالئ كل مكان.. ألست تعلم أذن أنك أن مجدت ذاتك، أو مجدك الناس فإنما تسلب صفة من صفات الله. وتنسبها إلى نفسك!! أهي التجربة التي حاربت أباك آدم، إذ لم يكتف بما وهبه الله من نعيم، بل أراد أن يكبر حتى يصير مثل الله؟

 

 

ومن أنت يا أخي حتى تتمجد؟! هل للتراب مجد أو للرماد كرامة أو للعدم احترام وهيبة؟! ثم ألست خاطئًا مثلي، وان كان الله قد سترك وأخفي عيوبك عن الناس – فهل للخاطئ مجد وهل للضعيف كرامة؟ إذن لماذا تمجد نفسك، وأنت تعرف حقيقتك بكل ما فيها من خطايا ونقائص وعيوب...

 

هل تفعل هذا لأن الناس لم يعرفوا حقيقتك بعد، ولم يعلموا كل شيء من ماضيك، ولم يكتشفوا كل ضعفاتك، ولم تظهر أمامهم أخطاؤك؟ لماذا إذن تخدعهم وأنت تعلم؟ بل لماذا تخدع نفسك والخداع لا يفيدك شيئًا؟؟

 

ألهذا الحد تستغل ستر الله وكتمانه حالتك عن الناس.. أتوده إذن أن يعلن للآخرين أفكارك وأحاسيسك ورغباتك المكبوتة...!!

 

ثم لماذا عن مجد زائل، لا يصحبك بعد الموت، ولا يقف معك في يوم الدينونة. أمام الديان العادل، الذي لا يتأثر في حكمه عليك برأي الناس فيك، لأن كل شيء مستور، هو عريان قدامه..

 

ألا يزال عزيز عندك مدح الناس؟ ألست تعرف أن مديحهم زائف: لأنه يكون أحيانا على سبيل المجاملة أو التشجيع أو التملق أو الخجل كما أنهم حتى إن صدقوا وأخلصوا فهم إنما يحكمون حسب الظاهر وليس فيهم من يقرأ فكرك، أو من يعرف نياتك، أو يدخل إلى قلبك ليفحص ما فيه...

 

يا أخي الحبيب: أنني لا اشك قد أثقلت عليك بأفكار مجتمعة فهل تريد أن أقص عليك قصة، لتكن أذن قصة نبوخذ نصر (دا4: 29-33): هل تعرف كيف نسب لنفسه مجدًا زائلًا؟ وهل تعرف كيف كانت نهايته؟ إذن ليته يكون درسًا لك...

 

أتراك تضايقت؟ سامح ضعفي، وأسلوبي الخشن في التعبير. ولكن أهي عادتك باستمرار أن تتضايق من شخص يكلمك بصراحة؟ لا يتملقك، ولا يستعمل معك ألفاظ التفخيم التي يستعملها الناس.. لماذا؟ الأولي بك يا أخي العزيز أن تحب هذا الأسلوب، لأنه يوقفك أمام حقيقتك، وما أشد احتياجك إلى الوقت أمام هذه الحقيقة، حتى تعرف نفسك، تلك المعرفة اللازمة لخلاصك.

 

ولكن دعنا نناقش الأمر معا. لماذا تريد أن تظهر عظيما أمام الآخرين؟ أهو مركب النقص؟ هل تشعر في ذاتك أنك في درجة صغيرة. وتريد أن تعوض ذلك بأن تكتسب مدح الناس بحرارة عن نفسك حتى لا تظهر أمامهم معيبا، وأن وقفوا منك محايدين لا مدح ولا مهاجمة، لم يعجبك هذا أيضًا وأخذت تتسول مدحهم بأن تحدثهم عن فضائلك حتى يعجبوا بك فيمدحونك..

 

أهذه هي الحقيقة؟ أن كانت كذلك، فلنحاول مناقشتها معًا:

 

حسن يا أخي أن تشعر بأنك ناقص وخاطئ وضعيف وأقل من الناس جميعًا، ولكن علاج هذا النقص لا يأتي بإضافة نقص جديد إليه عن طريق محبة مدح الناس، وإنما يأتي بتكميل الذات وإصلاح أمرها.

 

لماذا يهمك رأي الناس فيك ومدحهم إياك؟ ألعلك ستدخل ملكوت الله ان رشحك الناس لهذا؟! إذن فأعلم أن كثيرًا جدًا من الذين يمدحهم الناس سيلقون في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت..

 

{وويل لكم أن قال فيكم الناس حسنا} (لو26:6).

 

مدح الناس يا صديقي وقتي وزائل. وهم لا يثبتون علي حال. الذين هتفوا للسيد المسيح كملك. صرخوا أيضًا قائلين {اصلبه اصلبه} ومدح الناس أيضًا زائف لأنهم لا يعرفون الحقيقة تماما.

 

إليك سؤال يهمني أن تجيب عليه أجابة صريحة:

 

 ماذا يكون شعورك عندما يمدحك الناس وأنت تعرف عن خفاياك ما يخجل؟

 

هل تنسي أثناء مدحهم تلك الخطايا التي لو عرفوها عنك لطردوك خارج المجمع أم أنت تتناساها؟ أم تعتبرها مكدرات لا يجب أن تظهر أثناء نشوتك بمديح الآخرين؟ إذن فأنت يهمك فقط خارج الكأس، يهمك أن تكون كالقبور المبيضة من الخارج ومن الداخل نتنة؟!

 

إذن فأنت تهمك الحياة الأرضية فقط ولا تأبه للحياة الآتية. صارح نفسك يا أخي المحبوب بحقيقية مشاعرك، واعترف بهذا بينك وبين نفسك أولًا، ثم اسكب هذه الذات أمام أب اعترافك، أسكبها في بكاء وأنين وألم مر.

 

وإليك ما يجب أن تشعر به عندما يمدحك الناس:

 

1) اشعر أولًا أنك ربما تكون مرائيا، تظهر للناس غير ما تبطن. قل لنفسك في صراحة {أنني شخص خاطئ دنس، وعندما أجلس إلى أب اعترافي أكاد أذوب خجلًا وعندما أحاسب نفسي علي خطاياي تنسحق ندما وشعورا بالخسة والحقارة، وتصغر ذاتي أمام عيني، وعندما أقف للصلاة أشعر أنني غير مستحق أن أرفع نظري إلى فوق.. فلماذا إذن يمدحني الناس. ألعلني مرائي؟ ألعلني ذو وجهين؟: أظهر أمام الناس بشخصية، وحقيقتي شخصية أخرى؟ هل أنا ممثل؟ ربما أكون...

 

2) أشعر أن مدح الناس ربما يجعلك تستوفي أجرك علي الأرض فلا تنال أجرًا في السماء، وهكذا يضيع إكليلك بثمن بخس. إن مدحك الناس فخير لك أن تحزن. أحزن علي إكليلك الذي يوشك أن يضيع. وهذا الحزن المقدس يصفي نفسك ويجعل روحك تنطلق بالأكثر.

 

3) عند مدح الناس لك أشعر أنك ربما تكون مختلسا: قد سلبت مجد الله ونسبته إلى نفسك. لقد قال السيد المسيح: {لكي يروا أعمالكم الحسنة، فيمجدوا أباكم الذي في السموات (مت16:5). فإن كان المجد قد رجع إليك أنت بدلا من الآب، فربما يكون هذا اختلاسًا وأنت لا تدري، أو وأنت تدري. عندما تصلي وتقول: {لأن لك الملك والقوة المجد}. أنب نفسك التي تريد أن يكون المجد لها فتنافس الله في قوته.{ليس لنا يا رب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجدًا} (مز1:115).

 

4) عندما يمدحك الناس أنكر ذاتك، ووجه أنظارهم إلى الله، في غير رياء وفي غير تظاهر بالتواضع، أذكر لهم انك خاطئ. وضعيف وأن الله هو الذي فعل الأمر الذي يستحق المديح.

 

وكما توجه هذا الكلام إلى الآخرين، توجه به أيضًا إلى نفسك وأقتنع به حتى لا تعود فتنتفخ.

 

5) إذا وجدت البعض قد بدأ قصة أو حديثا أو خبرًا سينتهي بمدحك، حاول أن تغير مجري الحديث أو علي الأقل لا تُسَرّ بالمديح، وانسبه إلى الله عن اقتناع.

 

6) عندما يمدحك الناس تذكر هاتين الآيتين الجميلتين {مجدًا من الناس لست أقبل} (يو41:5).{مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك..} (يو5:17). احفظ هاتين ورددهما كثيرًا في فكرك.

 

7) وعندما يمدحك الناس تذكر خطاياك، واترك ضميرك يؤنبك حتى يكون هناك توازن بين داخلك، وبين مدح الناس من الخارج.

 

وأخيرًا، أن كان هذا هو المطلوب منك عندما يسعى إليك مدح الناس فبديهي جدًا أنك لا تسعي بنفسك إلى طلب هذا المديح أو استجدائه مما سنرجع إليه في المقال القادم أن شاء الرب وعشنا. صلي من أجلي.

 

16- ذاتك وإساءات الناس

 

 ان لم تنطلق من ذاتك يا أخي الحبيب من ذاتك هذه التي تعبدها من دون الله، والتي تكبرها وتفخمها أمام الناس، فلن تصل أبدًا إلى سمو انطلاق الروح.

 

 لعلك تحب أحيانا أن يمدحك الناس، ولقد تفاهمنا في مقال سابق عما يحسن بك فعله عندما يمدحك الآخرون. أما في جلستنا الهادئة هذه، فأود أن أسألك سؤالًا؟

 

ما هو شعورك وتصرفك عندما يسئ إليك الغير أو يظن بك الظنون؟

 

ربما تفكر في ذاتك أنك أُهِنْت، وربما تفكر في كرامتك وهيبتك والاحترام الواجب لك: فتغضب وتثور، وتثأر لذاتك، وتدافع عن نفسك. لست أنكر عليك هذا، فأنا إنسان في الجسد مثلك جربت هذه المشاعر جميعا، أو جربت بهذه المشاعر جميعًا ولكن دعنا نناقش الأمر معًا.

 

 

ماذا يفيدك الغضب؟ إنه يعكر دمك. ويتلف أعصابك وأخطر من ذلك كله أن الغضب يفقدك سلام القلب وراحته. ألم تسمع معلمنا يعقوب الرسول يقول: {أن غضب الإنسان لا يصنع بر الله} (يو20:1).، وغضبك من أجل ذاتك هو لا شك غضب إنسان كالذي يقصده معلمنا يعقوب. تقول أن هذا الغضب ينفس عنك، ويفرج عن الثورة المكبوتة في داخلك. ولكن لماذا تختزن في داخلك ثورة مكبوتة تحتاج إلى تنفيس؟ السبب في ذلك واضح طبعًا، هو أنك تفكر كثيرا في ذاتك! انطلق يا أخي الحبيب من هذه الذات وأنت تستريح.

 

إن أهنت فلا تفكر في ذاتك انك أهنت. وإنما في ذلك الذي أهانك، أنه أخوك. وأنت كشخص روحي ممتلئ بالمحبة، عليك أن تفكر في هذا الأخ الذي أخطأ: ماذا تفعل لأجله. أنك لا تريد طبعًا أن تنحدر نفسه الغالية إلى الجحيم، ولا تريد أن تقف إهانته لك عقبة في طريق خلاصه. لذلك فأنت تطلب إلى الله ألا يقيم له هذه الخطية ولا يعاقبه عليها، ثم أنت أيضًا تصلي من أجله أن يخلصه الله من الخطية ذاتها فلا يعود إلى اقترافها معك أو مع غيرك.

 

وعندما تفكر في أخيك هذا الذي أهانك، قد تفكر في السبب الذي جعله يفعل ذلك. ربما يكون مريضًا أعصابه متلفة، أو متعبا عقله مجهد، أو قواه منهكة، أو مرهقا بمشاكل اجتماعية أو دراسية، أو مالية.. فأنت تفكر فيما يمكن أن تفعله لأجله، وهكذا قد تخطر ببالك رحله أو نزهة لطيفة تدبرها له، أو قد تساهم بجهد في التخفيف أو الترفيه عنه. وأن لم تستطيع شيئًا من هذا كله فعلي الأقل ترثي له، وتطلب له من الله معونة خاصة.

 

إن الناس يا أخي الحبيب لم يخلقوا أشرارًا، لأن الله بعدما خلق الإنسان {نظر إلى كل ما فعله فإذا هو حسن جدًا} وأما الشر فإنه يأتي إلى الناس من الخارج دخيلًا عليهم..

 

وهذا الشخص الذي أهانك، ربما تكون لإهانته لك أسباب أخرى. وربما يكون قد أساء فهمك. ومثل ذلك تفاهم معه وأقنعه في وداعة ومحبة. ولكن هناك نوعًا من الناس يهين الآخرين حبا في أهانتهم مستغلًا تسامحهم ليتخذهم مجالا للفكاهة والتندر. مثل هذا الصنف أما أن تبتعد عنه، وأما أن تكلمه بلهجة حاسمة وحازمة مؤدبة مظهرًا له خطأه، ومانعا إياه من تكراره. ولتفعل هذا ليس علي سبيل الثأر للنفس، أو الاحتفاظ بكرامة ذاتية، وإنما حبا في ذلك المخطئ حتى لا تترك له فرصة أخرى للخطأ، ومجالا يسقط فيه ويهلك بذلك نفسه..

 

وشتان بين توبيخك لخاطئ بغرض انتقامي، توبيخا يجعله يثور عليك ويحتك بل، وبين تأنيب المحبة الحازم الهادئ الذي يشعر فيه الشخص أن مؤنبه يحبه..

 

هذا كله عن موقفك من جهة الشخص الذي تشعر أنه أهانك، ولكن اسمح لي أن أدخل قليلًا إلى أعماق نفسك لأناقش شعورك الباطن بينك وبين نفسك.

 

1) لماذا تحسب الكلام الذي يقوله غيرك أنه إهانة، أو انه شتيمة؟ لماذا لا تكون تلك التي تحسبها أهانه هي كلمة صريحة لازمة لإصلاح نفسك؟ وان كنت قد تضايقت منها فذلك لأنك تحب المديح، وتريد أن يقول فيك جميع الناس حسنًا. افرح يا أخي بانتقاد الناس وتأنيبهم، فان ذلك صالح لك وينقيك ويفيدك في حياتك الأخرى. إذا انتقدك شخص فأولي بك أن تشكره فربما يكون قد أرسل هذا الإنسان ليرشدك ويظهر لك أخطاك حتى تتركه.

 

2) ربما تكون تلك الإهانات تأديبًا لك من الله علي خطايا أخرى اقترفتها في ماض قريب أو ماضي بعيد. وعندما سمع داؤد النبي إهانة كهذه قال في انسحاق: {الله قال لهذا الإنسان اشتم داود} (2صم10:16). عندما يهينك غيرك يا أخي الحبيب تذكر خطاياك الماضية، واعرف أنك لست بالشخص الخالص النقاوة الذي يسمو عن التوبيخ..

 

3) في بعض الأحيان يكون الله قد عمل عملا ناجحا عن طريقك، فاتخذت أنت هذا النجاح سلاحًا تنتفخ به، وتحارب نفسك بالبر الذاتي، وخشى الله عليك من السقوط عن طريق الكبرياء فسمح أن تُهان، حتى يوجد توازنا بين مشاعرك، ويخفف شيئًا من كبرياءك. كثيرون من الذين يهانون متكبرون، أما الودعاء فيرفعهم الله من المزبلة ليجلسهم مع رؤساء شعبه {مز112}.

 

4) ربما تكون قد أعثرت غيرك بتصرفك وأنت لا تدري، وكان هذا هو سبب أهانتك. لذلك يحسن أن تدرس وجهة نظر من أهانك، لعله علي حق.

 

5) قد تكون هذه الإهانة درسا لك في المحبة والاحتمال. قال لي أحد الآباء الروحيين عن راهب اعتزل ولم يختلط بالأخوة في المجمع {إن فترة الوجود في المجمع لازمة للراهب. لأنه أن لم يستطع أن يحتمل مشاكسات الأخوة في المجمع، فكيف يستطيع أن يحتمل محاربات الشياطين في الوحدة كما قال مار اسحق!!

 

6) ماذا يضيرك عندما يحكم عليك إنسان حكما ظالما. أو عندما يظن فيك أنك مخطئ؟ ألعل هذا يعوقك  عن ملكوت الله، أم أن الله سيعتمد أحكام الناس؟

 

7) أم أنك تحب المديح والتطويب من بشر هم تراب مثلك؟ سيدك يا صديقي {ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه} (اش7:53). {أحصى مع أثمة} أما هو فقبل هذا الصليب..

 

8) أخيرًا يا أخي الحبيب، إذا أهنت فتضايقت، وكبرت عليك الإهانة علي الرغم من أنك خاطئ مثلي، فتذكر كيف أننا نهين الله فيصبر علينا ويحبنا ويقبلنا إليه! ما أعظم إلهنا الحنون ليس له شبيه بين الآلهة.


تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -